انت الان في كلية التمريض

"الطب الشعبي" .. خرافة أم ثقافة تستوجب الاختبار والتنقيح؟ تاريخ الخبر: 21/05/2022 | المشاهدات: 902

مشاركة الخبر :

الطب "الشعبي" هو جملة الوصفات المتوارثة لعلاج الآلام والوقاية من الأمراض، سواء بتناول جرعات معينة من مكونات صالحة للأكل، أو وضع مواد موضعية على أجزاء من الجسم، أو اتباع ممارسات معينة في الحياة اليومية (مثلًا استخدام أغطية ثقيلة للتعرق في أثناء النوم والاستشفاء من نزلات البرد)، ويطلق على هذا النوع من الممارسات العديد من التسميات مثل "الطب التقليدي" أو"الطب التكميلي" أو"الطب البديل" أو"طب السكان الأصليين"، ويشمل أيضًا التراث الشفهي من العلاجات التي يغيب فيها استخدام مستحضرات صيدلانية، ويدخل فيه العلاج بالإبر الصينية والعلاج بالأعشاب والتدليك، وتعرفه منظمة الصحة العالمية بأنه: "مجموع المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصلية للثقافات المختلفة، سواء أكانت قابلةً للتفسير أم لا، والمستخدمة في الحفاظ على الصحة وكذلك في الوقاية والتشخيص والتحسين أو العلاج من الأمراض الجسدية والعقلية"[1]، ويقابله "الطب الحديث"، وهو الطب الذي يجري تدريسه في الجامعات، وله أسس علمية تجريبية ونظرية وتفسيرات واضحة -بخلاف الشعبي- ويلتزم الأطباء بتطبيقه وفقًا لمواثيق العمل.
ويعتبر الطب الشعبي منتَجًا ثقافيًّا يماثل القصص والأمثال والأهازيج، فهو نتاج جماعي لأفكار وتجارب، لذلك نجده محل دراسة من علماء الأنثربولوجي (علم الإنسان) وفي كتب الفلكلور (الثقافة الشعبية)، وفي الخمسينيات ظهرت الأنثربولوجيا الطبية بوصفها أحد فروع علم الأنثربولوجي المختصة بعلاقات الصحة والثقافة، لتبحث في موضوعات من بينها تفسير الناس للمرض والعلاج واستقبالهم للأمراض والعلاجات الجديدة.
ومثل أي منتج ثقافي، يتطور هذا الطب على نحو تصاعدي، فتستمر بعض ممارساته وتزيد تفاصيلها، أما المهمَل منه فيظل في الطبقات الدنيا للثقافة[2]، وإذا اقتبسنا من الطب الشعبي المصري الأمثلة على ذلك، ننظر إلى وصفات إنبات الشعر وتكثيفه، فنجد الكثير منها يتضمن تدليك فروة الرأس بالصوف وبعد ذلك بالثوم، وهي وصفة استمرت وتحركت نحو الطبقة العليا المميزة من الطب الشعبي، فلا تزال مستخدمةً ومعروفة، في المقابل، انتقلت وصفة تدليك الرأس بفضلات الحمام لتكثيفه إلى الطبقة الدنيا من الثقافة، فلم تعد منتشرة، بل لا يعرف بها كثير من الناس، والسبب في هذه الحركة- سواء الصعود والانتشار أو الهبوط والتراجُع- هو بالأساس اختلاف أنماط الحياة، إذ لم تعد تربية الطيور المنزلية شائعةً بين أبناء المدينة كما كان الحال في الماضي، بالتالي قَل تعامل الإنسان مع الطير، ليصبح مستغربًا الاعتماد على فضلاته ضمن وصفةٍ ما، بل حتى في غياب الاستغراب، بات الحصول على هذا المكوّن للوصفة صعبًا، في المقابل، فإن وصفة الثوم والصوف لا تزال في متناول الإنسان الحديث، ربما نضيف إلى ذلك فاعليتها التي تحمل تفسيرًا علميًّا، فعملية التدليك بجسم خشن مثل الصوف تفتح مسام فروة الرأس، لتستقبل الثوم الذي يضم حزمة من الفيتامينات- مثل فيتامين سي وبي6 والمعادن التي تعزز نمو الشعر.[3]
الطب الشعبي ما بعد الإنترنت
بعد انتشار استخدام الإنترنت وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل تداول ممارسات الطب الشعبي ليتحقق لها مزيدٌ من الانتشار، سواء من خلال تضمينها في المحتوى الذي يصنعه مستخدمو هذه الشبكات من منشورات نصية وتدوينات فيديو، أو عبر إتاحتها في مواقع مخصصة، وفتحت هذه الشبكات مجالًا لصناعة المحتوى المعتمد على الطب الشعبي، ليصبح –بعد فترة- تداول الوصفات المتوارثة أمرًا غير كافٍ، ويبدأ صانعو المحتوى على الشبكات الاجتماعية في استحداث "علاجات" جديدة على هامش الطب التقليدي.
هذه العلاجات المستحدثة والمنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي -بخلاف الطب الشعبي المتوارث- لا تكتسب مصداقية التجربة أو الفاعلية، بل يعمد المدونون إلى تركيب وصفات تكون أولًا: مختلفة ومثيرة للدهشة، بحيث تجذب المشاهدات، وثانيًا: تعتمد على المكونات المنزلية المتوافرة بالفعل، حتى لو أنها غير عشبية، على سبيل المثال، هناك فيديو لصناعة كريم عبارة عن خليط من بشر الصابون ومشروب غازي والنشا، وتطرحه صاحبة الوصفة باعتباره يقضي على اسمرار الأماكن الغامقة بالجسم، وكريم آخر من خلط الفازلين المُرطب بأقراص أسبرين المُسكنة للآلام يُفترض أنه يؤدي إلى تفتيح لون الوجه وتوحيده.
وثالثًا: تكون تكلفة صناعة الوصفة منخفضة، ورابعًا: تتسق الوصفة مع الأحداث الجارية ويمكن إدراج الكلمات المفتاحية الشائعة بها، فنجد مثلًا (ماسك الكمامة) للوجه، وهو قناع للبشرة من الحمص المطحون يعتمد على وصفة متوارثة لتقشير الوجه، لكن الجديد الذي تطرحه هو تغطية غالبية الوجه بالكمامة الطبية مدة 20 دقيقة في أثناء وضع الخليط، وبذلك تصنع محتوى لكلمة شائع البحث عنها على هذه الشبكة الاجتماعية، بما يعود على محتواها بمزيد من المشاهدات.
في كتابه (الأنثروبولوجيا الطبية.. دراسات نظرية وبحوث ميدانية) يحدد عالم الأنثربولوجيا علي المكاوي، عنصري انخفاض التكلفة والوصول في إطار إنساني للمتلقي ضمن أسباب لجوء الناس إلى العلاجات من الطب الشعبي، خاصةً مع انخفاض دخل الأفراد، وبينما يُغفل كثير من ممارسي الطب الحديث الخلفية الاجتماعية والثقافية للمرضى، وفق "مكاوي"، نجد المدون يلقي مقدمةً عن معاناته من الحالة أو المرض الذي تطرح له الوصفة حلًّا، ما يُشعر المشاهد بالتعاطف، ويُدرج "مكاوي" ضمن الأسباب أيضًا استعصاء علاج الأمراض المزمنة، بالتالي سعي المصابين بها وذويهم إلى أي بارقة أمل تقودهم إلى الشفاء[4].
ومع ظهور فيروس كورونا، انتعشت صناعة الطب الشعبي، لتظهر مزيد من المعتقدات والوصفات التي يُفترض أن تمنع الإصابة بالمرض أو تحقق الشفاء منه، على سبيل المثال، شاع في المغرب أن غسل اليدين ببول الأطفال يمنع وصول فيروس كورونا إلى الجسم، في حين زاد الطلب على الأعشاب بنسبة 200 بالمئة في الأردن خلال شهري أبريل/ نيسان ومايو/ أيّار 2020[5]، وتداول بعض أفراد النخبة السياسية العلاجات البديلة، مثلًا -في مايو/أيار 2020- دعا أحد رؤساء الأحزاب المصريين الجمهور إلى شرب عصير البرسيم للوقاية من كورونا[6]، وخلق غياب العقار الطبي –في بداية الجائحة- فراغًا علاجيًّا سارعت بعض الشركات إلى ملئه بتقديم طب الأعشاب، ففي يونيو/ حزيران من العام ذاته ظهرت أقراص (كورونيل) العشبية من إنتاج شركة هندية ادعت أن هذا العقار يعزز المناعة بالدرجة التي تمنع الإصابة بالفيروس، بل يعالجه حال الإصابة، وانتشر العقار في الهند وخارجها، وبينما انتقدته الرابطة الطبية الهندية، تم إقراره من الحكومة بوصفه عقارًا مكمّلًا للعلاج من كورونا[7].
هل نرفض الطب التقليدي أم نقبله؟
يظهر من اللحظة الأولى أن الطب الحديث يلغي الطب الشعبي، أو أنه الأَولى بالاتباع من ذلك المعتمد على موروثات يختلط فيها الصحيح بالخطأ، ما يخلق قدرًا من المعارضة من أنصار العلم للطب الشعبي، وفي ورقة بحثية بعنوان (الطب الشعبي بين الحتمية السوسيو-ثقافية وتحديات نسق الطب الحديث) تعتبر مريم الأنصاري أن "التجاذب الحاصل بين نمطي العلاج الشعبي والرسمي ما هو إلا انعكاس لتنوع البناء الاجتماعي الثقافي المنطلق من عدة ثنائيات للبناء السوسيو ثقافي للمجتمع، منها: (حضر/ ريف)، (أغنياء/ فقراء)، (مثقفين/ عوام)"[8].
لكن يبقى اتخاذ موقف تجاه الطب الشعبي أمرًا شائكًا، إذ يتداخل مع مفاهيم الأصالة الاجتماعية والتدين، وفي بحثها (ثقافة العلاج الشعبي)، تخلص طالبة الدكتوراة نجاة ناصر إلى أن العوامل الثقافية التي تفسر لجوء المرضى إلى العلاج الشعبي للمداواة هي: ارتباط الطب الشعبي بالدين، مما "أعطاه نوعًا من القدسية، بالإضافة إلى الاعتقاد بنجاعة العلاج الشعبي وفاعليته في علاج الأمراض"، وارتباط الطب الشعبي بالثقافة الشعبية، ما يجعل اللجوء إليه مظهرًا من مظاهر الأصالة الثقافية والارتباط بالمجتمع[9]، أي أنك عندما تأخذ بإحدى وصفات الطب التقليدي تعزز ارتباطك بالبيئة التي تعيش فيها وثقافتها، في حين قد يرى البعض أن رفض هذه الممارسة بمنزلة اعتراض على ثقافتك الاجتماعية.
هذا الارتباط بين الطب الشعبي والثقافة والموروث، والدين في أحيان كثيرة، يجعل مقاومته أمرًا محفوفًا بمخاطر المعارضة بل والرفض الاجتماعي للمُعارضين، وتعرض رواية (قنديل أم هاشم) للأديب المصري يحيى حقي، هذا النموذج، فيقوم إسماعيل بتحطيم القنديل المعلق بجوار مقام السيدة زينب في القاهرة، بعد عودته من بعثة لدراسة الطب في ألمانيا واكتشافه أن العوام يستخدمون زيت هذا المصباح للتداوي، ما يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية، كان تحطيم إسماعيل للمصباح رمزًا لتمرد العالم الطبيب على الخرافات الشعبية المتعلقة بالصحة والتداوي، خاصةً أنها لا تفيدهم، على العكس، فقدت خطيبته بصرها بسبب تقطير الزيت في عينيها، لكن بقدر ما كان تحطيم القنديل رفضًا للخرافة، كان –في الوقت نفسه- تحديًا للثقافة الشعبية، بل فسّره أهل الحي بأنه رفضٌ للدين واستخفافٌ بقدسية زيت القنديل التي اكتسبها من وجوده بجوار المقام، ويتجلى الرفض الاجتماعي لإسماعيل في رحيله عن منطقته وإغلاق عيادته بسبب مقاطعة العامة له، ولا ينجح إسماعيل في أداء دوره الطبي وإعادة فتح العيادة إلا بعد التوفيق بين "الخرافة" والعلم، فيدّعي أن العلاج الذي يقدمه لهم مشتق من زيت القنديل.
التحقيق قبل الرفض
بينما كانت مقاومة (إسماعيل) –في (قنديل أم هاشم)- للطب الشعبي نابعةً من الآثار السلبية التي وجدها لاستخدامه للتداوي، قد يرفض البعض فكرة استخدام هذا الطب كليةً، وهو أمرٌ يعرِّض الطبيب الرافض لعدم القبول الاجتماعي، بل إنه أيضًا يضيع عليه وعلى المرضى فرصة استخدام علاجات بسيطة وفعّالة، فلا نستطيع الحكم على ممارسات الطب التقليدي إلا بعد دراستها وتقييمها، ليعرف الطبيب هذه العلاجات ويدرسها ليقف على مدى فاعليتها، ثم يجد تفسير هذه الفاعلية من عدمها، وهو ما حصل بالفعل عام 1985 عندما نشر الطبيب الأميركي كلينتون دي فروست جارفيس كتابه (الطب الشعبي: دراسة طبيب لأسرار الطبيعة)[10] الذي باع أكثر من مليون نسخة في الولايات المتحدة وقت صدوره، وانتشر بعد إعادة طبعه في إنجلترا، ويسرد المؤلف خلاصة اختباره لوصفات شعبية علاجية قابلها في أثناء عمله كطبيب على مدار 50 عامًا، معظمها كان في مناطق ريفية، وقام "جارفيس" باختبار علمية كثير من هذه الوصفات ليصل إلى مجموعة من ممارسات فعّالة للطب الشعبي – شائعة في منطقة فيرمونت تحديدًا- لها أساس علمي وصالحة طبيًّا، وناقش الطبيب الأمريكي نتائج اختباراته لهذه الممارسات مع كثير من الأطباء في بلده، ليضمِّنها في كتابه ويشرح الأسباب الطبية لفاعليتها.
لكن الخطوة الأولى لذلك، خطوة تحقيق الموروث الشعبي الطبي، تبدو هي الأصعب، ففي عام 2019 نشرت منظمة الصحة العالمية نتائج استبانة أجرتها على 113 دولة من أعضائها حول الصعوبات التي يواجهونها فيما يتعلق بتنظيم ممارسة الطب الشعبي أو تجريمها، تصدَّر نقص المعلومات هذه التحديات بنسبة 99 بالمئة، يليه نقص الدعم المالي للبحوث المتعلقة بهذا النوع من الطب (الشعبي) بنسبة 86 بالمئة، ثم غياب آليات مراقبة صلاحية المنتجات المتعلقة بهذا الطب، بما في ذلك الأدوية العشبية بنسبة 75 بالمئة[11].
في النهاية، إن الطب التقليدي أو الشعبي له قوة الانتشار والتأثير، لكونه جزءًا من الثقافة، بالتالي يجدر الاستفادة من ذلك بتنقيحه ودمجه مع الطب الحديث، واليوم هناك عددٌ من الدرجات العلمية في الطب الشعبي والتكميلي والعلاج بالنباتات في عدد من الدول الأوروبية بجانب الصين وماليزيا والولايات المتحدة وكندا، من درجة البكالوريوس حتى الدكتوراة، بالإضافة إلى تأسيس كيانات طبية مرموقة متخصصة في الطب الشعبي، منها على سبيل المثال: جمعية العلاج بالأعشاب الكندية[12]، ونقابة المعالجين بالاعشاب الأمريكية[13]، وتأسست في بعض الدول معاهد لدراسة الطب التقليدي حتى ذلك الخارج عن تراثها الثقافي، فمثلًا في مقاطعة بريتيش كولومبيا بكندا معهد ممارسي الطب التقليدي الصيني والمعالجين بالإبر الصينية[14] ووزارات للطب التكميلي في دول عديدة منها الهند والصين.