انت الان في كلية العلوم الادارية

التكامل بين مكافحة الفقر وتعزيز أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة: دراسة تحليلية في إطار أهداف التنمية المستدامة تاريخ الخبر: 05/06/2025 | المشاهدات: 813

مشاركة الخبر :

أ.د حيدر علي الدليميّ
كلية العلوم الإدارية – جامعة المستقبل
في ظل التحديات التنموية العالمية المتزايدة، برزت أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي أقرّتها الأمم المتحدة عام 2015 كخارطة طريق شاملة لتحقيق تنمية متوازنة، بيئيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. من بين هذه الأهداف، يحظى الهدف الأول (القضاء على الفقر بجميع أشكاله) والهدف الثاني عشر (ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة) بأهمية خاصة، نظرًا لتأثيرهما المتبادل وعلاقتهما الوثيقة بالعدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
غير أن العلاقة بين مكافحة الفقر وتعزيز الاستهلاك والإنتاج المستدامين ليست دائمًا تكاملية، بل قد تكون في بعض الأحيان محط توتر أو تناقض. فهل يمكن التوفيق بين هذين الهدفين؟ وهل تسهم سياسات الحد من الفقر في ترسيخ أنماط أكثر استدامة، أم أنها تؤدي إلى أنماط استهلاك غير مستدامة بسبب أولويات البقاء والاحتياجات الأساسية؟ هذا المقال يحاول تحليل هذه العلاقة، واستكشاف أوجه التكامل أو التنافر بين السياسات ذات الصلة.
أولًا: الفقر وأنماط الاستهلاك – العلاقة الجدلية
تؤكد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن الفقر لا يعني فقط نقص الدخل، بل يشمل الحرمان من فرص التعليم، والخدمات الصحية، والمشاركة الاقتصادية والاجتماعية. وفي المقابل، فإن أنماط الاستهلاك غير المستدامة لا تقتصر على الأغنياء فقط، بل قد تنبع أيضًا من الفقراء الذين يُضطرون إلى خيارات قصيرة الأمد تهدر الموارد أو تضر بالبيئة (مثل استخدام الوقود الأحفوري الملوث أو الاعتماد على المنتجات الرخيصة والضارة).
بالتالي، فإن الفقر لا يؤدي تلقائيًا إلى استهلاك مستدام. بل إن رفع مستوى معيشة الفقراء قد يؤدي في بعض السياقات إلى زيادة استهلاك الموارد، ما لم يكن مقرونًا بسياسات توجيهية لضمان الاستدامة.
ثانيًا: السياسات المزدوجة – أوجه التكامل
رغم التحديات، يمكن صياغة سياسات تنموية تحقق التكامل بين SDG 1 وSDG 12 عبر ما يلي:
1. تعزيز الكفاءة البيئية في برامج مكافحة الفقر: يمكن ربط الدعم الاجتماعي (مثل الإعانات أو مشاريع التمكين الاقتصادي) بتشجيع استخدام الطاقات المتجددة، أو المنتجات المحلية ذات الأثر البيئي المنخفض.
2. التمكين البيئي للمجتمعات الفقيرة: من خلال دعم المشاريع الصغيرة الخضراء، مثل الزراعة العضوية، أو إعادة التدوير، أو الابتكارات البيئية الشعبية، ما يحقق دخلًا مستدامًا ويقلل الأثر البيئي.
3. التثقيف البيئي في استراتيجيات محو الأمية والفقر: لا يكفي تعليم الفقراء القراءة والكتابة، بل يجب دمج الوعي البيئي في المناهج والبرامج، مما يرسّخ ممارسات استهلاك مسؤولة منذ البداية.
4. إصلاح نظم الدعم والضرائب: بتحويل الدعم من المنتجات المضرة بيئيًا (مثل الوقود الأحفوري) إلى دعم الخيارات النظيفة، وتوجيه الضرائب نحو الحد من النفايات أو الانبعاثات.
ثالثًا: أوجه التعارض والتحديات
ومع ذلك، توجد تحديات حقيقية أمام هذا التكامل، منها:
• التضحية بالاستدامة على المدى الطويل لصالح الاستجابة الفورية للفقر، وهو ما يحدث عندما تُعطى الأولوية لتوفير الطعام والسكن بأي وسيلة، بغض النظر عن أثرها البيئي.
• ضعف التنسيق بين الجهات المعنية، حيث تُصاغ سياسات الحد من الفقر بمعزل عن وزارات البيئة أو الطاقة أو التخطيط.
• التمويل المحدود، الذي يجعل من الصعب تطبيق تقنيات صديقة للبيئة في المجتمعات الفقيرة، رغم جدواها الطويلة المدى.
• ضعف الحوكمة ومؤسسات الرقابة، مما يعيق تنفيذ سياسات متكاملة فعالة على الأرض.
رابعًا: دراسات حالة مختارة
يمكن النظر إلى تجارب بعض الدول في هذا السياق:
• الهند: أطلقت برامج دعم للطبقات الفقيرة تتضمن توفير مواقد طهي تعمل بالغاز النظيف بدلاً من الحطب، مما قلل من التلوث المنزلي ودعم الصحة البيئية.
• البرازيل: اعتمدت برامج (بولسا فاميليا) لدعم الأسر الفقيرة، مع تضمين جوانب تعليمية وصحية ساعدت في ترسيخ استهلاك مسؤول على المدى الطويل.
• رواندا: استثمرت في الزراعة المستدامة للفقراء الريفيين، مما حسن الأمن الغذائي دون زيادة الضغط البيئي.
نحو تكامل استراتيجي
إن العلاقة بين القضاء على الفقر وتعزيز الاستهلاك والإنتاج المستدامين ليست علاقة صفرية، بل يمكن أن تكون تكاملية إذا ما وُضعت سياسات ذكية وشاملة. التحدي الحقيقي يكمن في التخطيط المتكامل، والتمويل المستدام، وبناء القدرات المحلية، إضافة إلى التنسيق بين القطاعات، بما يضمن تحقيق مكاسب مزدوجة: عدالة اجتماعية واستدامة بيئية.
لذلك، يجب أن تتحول أهداف التنمية المستدامة من مجرد مؤشرات منفصلة إلى نموذج ترابطي متكامل، يراعي التشابك بين الأبعاد المختلفة للتنمية، ويحولها إلى فرص مترابطة بدلاً من معادلات متعارضة.
جامعة المستقبل الأولى على الجامعات الأهلية.