من الاستخدامات المهمة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي في مجال العدالة الجنائية، تقييم المخاطر عن طريق خوارزميات هذا الذكاء او ما بات يعرف بـ "العدالة التنبؤية" والتي يُقصد بها "برمجية حسابية قادرة على البحث في مجموع القرارات والأحكام والقرارات القضائية السابقة، من أجل إستخراج ملف من الملفات القضائية او نص من نصوص القواعد الاجرائية"، او هي "خوارزميات ذكاء إصطناعي تقوم بتحليل البيانات وتستخلص نماذج تصف بشكلٍ دقيق فئات وتصنيفات البيانات المهمة، وتعتمد هذه الخوارزميات في تنبؤاتها على بيانات سابقة يتم إستخدامها للقيام بالتنبؤ"، ولهذه الخوارزميات دورٌ مهم في مساعدة المؤسسات القضائية على الوصول الى عدالة قانونية أكثر موثوقية من خلال الترابط بين القنون وعلم الرياضيات، والتتأكيد على ان للعدالة جانبٌ إنساني .
وتسمى خوارزميات الذكاء الاصطناعي في هذه الأحوال بـ "تقييمات المخاطر" والتي لها أيضاً دورٌ مهم في التنبؤ بسلوك المتهمين والمسجونين في المستقبل، وكذا التنبؤ بمدى عودة المتهم الى إرتكاب الاتهام المسند اليه قبل المحاكمة، وهو ما يسمى بـ "خطر العَود"، كما تستخدم هذه التقنيات في تحديد مدى لزوم دفع الكفالات وتحديد قيمتها، بل وحتى في القرارات المتعلقة بأحكام البراءة والإدانة، وأيضاً في تحديد مدة العقوبة ونوع المؤسسة العقابية ومدى إمكان إستفادة المتهم من نظام الافراج الشرطي قبل نهاية المدة، وتعتمد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في "تقييم المخاطر" على عددة عوامل منها عمر المتهم وجنسه ومحل إقامته وخلفيته العائلية وحالته المهنية او الوظيفية، ومن ثم فان نتائج "التنبؤ" ستختلف هنا إزاء شخصين إرتكبا الجريمة ذاتها تبعاً لإختلاف مدخلات كل منهما . ويرتكز العمل القانوني في نطاق "العدالة التنبؤية" على أنظمة كومبيوتر متقدمة تعتمد خوارزميات حسابية لديها القدرة العالية جداً على إستخراج البيانات من شبكة الإنترنت وغيرها من مصادر البيانات والمعارف القانونية الأخرى المتنوعة والموثقة والتي تميل الى إنشاء تقدير لفرص الكسب في دعوى قضائية مزمع إقامتها، إستناداً الى كسب دعوى قضاية سابقة قد صدر فيها حكم قضائي يتعلق بوقائع مشابهة للدعوى المزمع إقامتها، أياًكان مستوى المحكمة التي أصدرت هذا الحكم .
ومن البلدان التي أخذت بنظام العدالة الجنائية التنبؤية، (المملكة المتحدة) والتي إستخدمت هذه الخوارزميات في توقيف الجناة وكذلك في دراسة ماضي أصحاب السوابق لمنع وقوع جرائم مشابهة مستقبلاً بالاعتماد على ضوابط متعددة، منها حالتهم الاجتماعية والمنطقة الجغرافية التي يقطنوها من أجل التنبؤ بمدى قيامهم بارتكاب جرائم مشابهة في المستقبل، ومنها تطبيق (Luminance) وهو خوارزمية تستند الى تكنولوجيا التعليم الآلي للتعرف على الأنماط ومراجعة المستندات وتتعلم من خلال التفاعل مع المحامين والمستندات، وكذلك تطبيق (Hart) وهو خوارزمية تتنبأ بمستوى قيام المشتبه به في إرتكاب جرائم أُخرى في فترة زمنية معينة من خلال مراجعة تاريخ المشتبه به وكذلك الجنس والعمر والمنطقة الجغرافية . اما في (فرنسا) فقد أجري عام 2017 إختباراً لبرنامج العدالة التنببؤية (Predictice) في مختلف دعاوى التقاضي في محكمتي "رين ودواي"، وكان الهدف من التجربة محاولة الحد من التفاوت المفرط في قرارات المحاكم من أجل تطبيق مساواة الافراد أمام القانون، غير ان النتيجة كانت عدم إضافة تلك التجربة لأي رؤية قانونية للذكاء الاصطناعي في صنع القرار، كما يبدو ان هذا البرنامج قد خلط بين الوقائع والأسباب التي كانت حاسمةً بالنسبة للقضاة في القرارات المستخدمة، وهو ما أدى الى نتائج ضعيفة. أما في (الولايات المتحدة) فقد تم تطبيق هذه الخوارزميات في مجال العدالة الجنائية، إذ طورت ولاية "شيكاغو" قائمة إستراتيجية تضم بيانات الأشخاص (Stratigic Subject List) قائمة على الخوارزميات تقوم بتحليل بيانات المشتبه فيهم والذين تم القبض عليهم بسبب خطورتهم الاجرامية، وتصنف هذه القائمة أربعمئة شخص وفقاً لمقاييس من "500 - 1" باستخدام عناصر مثل العمر والسلوك الاجرامي والمجنى عليهم وسجلات الاعتقال بسبب المخدرات والاتماء الى العصابات الاجرامية، وبعد الاطلاع على نتائج تلك البيانات تبين ان التعرض لإطلاق النار مرتبط بأن يصبح الشخص من مرتكبي الجرائم مستقبلاً وان عنصر الشباب يمثل عاملاً مهماً للتنبؤ بالعنف، وان الانتماء الى العصابات يحظى بقيمة تنبؤية أقل، فضلاً عن ان سوابق الاعتقال بسبب المخدرات ليست مرتبطة الى حدٍ كبير بالنشاط الاجرامي مستقبلاً .
والواقع ان للعدالة التنبؤية عدداً من المزايا، أبرزها انها تؤدي الى تحسين نظام العدالة من خلال تلافي بطئ الإجراءات في ظل النظام القضائي التقليدي، فضلاً عن تحسين جودة العمل القضائي كمياً ونوعياً، مع دعم نشر الثقافة القانونية بين فئات وقطاعات مختلفة، ما ينعكس على العمل القانوني ككل، كما تسهم العدلة التنبؤية في إتخاذ القرارات المستنيرة من خلل الاستفادة من المبادئ والفقرارات القضائية السابقة، مما يؤدي وعلى المدى الطويل بالعدالة التنبؤية الى زيادة موائمة وإتساق قرارات المحاكم الى حدٍ كبير، وفي ذلك ذكر "LouisLarret - Chahaine" أحد مؤسسي البرنامج التجريبي الذي إختبرته محاكم الاستئناف في "رين ودواي وبار ليل" "ان نظام العدالة التنبؤية سيضع حداً لتلك العدالة التي كانت غير متوقعة وعشوائية في أنحاء البلاد، والتحرك نحو شيء أكثر منطقية او علمية، او على الأقل أكثر سيطرة على ذلك" . كما تنبدو مزايا هذه العدالة التنبؤية في انها تتيح للمحامين معلومات واضحة وقائمة على حجج قوية، مما يجعل من نصائحهم لعملائهم أكثر رُشداً وتبصراً ويقيناً، وأكثر موثوقية ومنهجية، فضلاً عن ذلك، فان العدالة التنبؤية ستؤدي الى النهوض بنظام العدالة الجنائية من خلال النهوض بنظام العدلة عن طريق إعادة تركيز عمل القضاة في توفير الجهد الذي تستغرقه قضايا تتطلب وقتاً طويلاً في نزاعات متطابقة ومتكررة، ومن المزايا الأخرى ان نظام العالدة هذا سيسهم في تقييم مقدار الضرر في دعاوى المسؤولية المدنية والإدارية في الحالات التي يصعب فيها تقدير التعويض بحسب المنطقة الجغرافية ونوع المحكمة ودرجتها .
ومع ذلك، فان نظام العدالة الجنائية التنبؤية لا يخلو من العيوب والمخاطر ولاسيما الإفراط في الاعتماد عليه، حتى ان الأستاذ "Arno de Schinisten" وهو محامٍ بمجلس الدولة ومحكمة النقض الفرنسيَين قد ذهب الى ان نتائج إستخدام برمجيات العدالة التنبؤية على أساس تنبؤية في محاكم الاستئناف في رين دواي قد جائت مخيبة للآمال" . وعلى العموم، فان من أبرزها عيوب العدالة التنبؤية انها تؤدي الى الانتقاص من حرية القاضي، كون هذه الحرية هي التي تؤدي بالقاضي الى تكوين عقيدته، والتي مؤداها نفاذ القاضي ببصره وبصيرته الى روح القانون وتسبع وجدانه بفلسفته، ثم يقوم بترجمة ذلك الى جعل إرادة القانون أقوى من نزوات الافراد وشهواتهم، وهي حرية في نهاية الأمر تخضع لرقابة محكمة النقض "التمييز" التي تلزمه دائماً بالافصاح عن الأدلة التي إستند اليها من دون غموض او إبهام وان تكون هذه الأدلة غير متناقضة، وفي ذلك ذهبت "Thuraya Amrani - Makki"الأستاذ في جمعة باريس الى العدالة لم تعمل بكل طاقتها بعد،وانه لطالما كان الانسان غير المعصوم من الخطأ هو من يبرمج هذه الآلات فان الأخيرة كذلك ستكون أيضاً غير معصومة بحكم اللزوم، كذلك قيل ان نظام العدالة التنبؤية يؤدي الى "جمود الاجتهاد القضائي" ... .
ومما تقدم نجد ان العدالة الجنائية التنبؤية تتمثل في إستخدام خوارزميات قادرة على نمذجة النتائج القضائية من خلال تحليل القرارات السابقة، فضلاً عن دوره في تقييم خطورة المتهمين والمشتبه فيهم وكذا مدى إستحقق المتهم للإفراج الشرطي من عدمه وغير ذلك، مع ان هذه الخوارزميات لاتزال محاطةً بالكثير من المخاطر والمخاوف، كونها وليدة برمجة بشرية لا ترفع عنها التحيز في تغذية البيانات او الخطأ في الأخيرة . ذلك ان النظام القضائي الجنائي مجال حساس جداً ويتعلق بحياة الافراد وحرياهم وأموالهم، ومن ثم فان التسليم في الحكم لهذه الخوارزميات فحسب، أمر نجده لا يخلو من مخاطرة، لذا نرى ان الأسلم في هذا الصدد أن يكون لتلك الخوارزميات دورٌ "إستشاري" من خلال الاستئناس به من قبل القضاء في إصدار قراراته، من خلال برمجة حالات شخصية وظروف موضوعي تتعلق بالمتهمين ومنها عمر المتهم وحالته الاجتماعية وسوابقه الجنائية وظروف عمله ووضعهالاقتصادي ومحل سكنه وغيرها .
الأستاذ الدكتور عمار عباس الحسيني
عميد كلية القانون – جامعة المستقبل
جامعة المستقبل الجامعة الاولى في العراق